كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتىإذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه.
فوالله ما رد علي السلام. فقلت: له: يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى. هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت، قال فعدت فنشدته فسكت؛ فعدت فنشدته.
قال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب ابن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا، فقرأته فإذا فيه:
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرتها.. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربنها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امراة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلالًا شيخ ضائع، وليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقربنك» فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك! فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا.
قال: ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخًا أوفى على جبل سَلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدًا؛ وعرفت أن الفرج؛ فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر. فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إليَّ رجل فرسًا وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ؛ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجًا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك.
حتى دخلت المسجد. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام إليّ طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة.
قال كعب رضي الله عنه: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. وأنزل الله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} إلى قوله: {وكونوا مع الصادقين}.
قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه. فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس} إلى قوله: {الفاسقين} هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا- كما رواها أحدهم كعب بن مالك- وفي كل فقرة منها عبرة، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي، ومتانة بنائها، وصفاء عناصرها، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة، ولتكاليف الدعوة، ولقيمة الأوامر، ولضرورة الطاعة.
فهذا كعب بن مالك- وزميلاه- يتخلفون عن ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة. يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة، فيؤثرونها على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب.
ولكن كعبًا ما يلبث بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحس ما فعل، يشعره به كل ما حوله: «فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله»- يعني بمن عذر الله الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون.
فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة البعيدة الشقة. لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق، وإلا العاجزون الذين عذرهم الله. أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحًا من العسرة، وأصلب عودًا من الشدة..
هذه واحدة.
والثانية هي التقوى. التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار. والأمر بعد ذلك لله: فقلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر. لقد أعطيت جدلًا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي. ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من الله. والله ما كان لي عذر. والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فالله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ. ومع حرصه البالغ على رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقًا بالأنظار أو مهملًا لا ينظر إليه إنسان- مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق؛ والرجاء في الله أوثق.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا. أيها الثلاثة. من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم. فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام.
فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى. هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت.
قال: فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته.
قال: الله ورسول أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
هكذا كان الضبط، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة- على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة-.. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة. فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة، ولا مخلوق يلقى كعبًا بأنس، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي. حتى ابن عمه وأحب الناس إليه، وقد تسور عليه داره، لا يرد عليه السلام، ولا يجيبه عن سؤال. فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه، إنما قال: الله ورسوله أعلم.
وكعب في لهفته- وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف- يتلمس حركة من بين شفتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة، ولم يكتب له الذبول والجفاف!
وبينما هو طريد شريد، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة- ولو على سبيل الصدقة- يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه.. ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار، ويعد هذا بقية من البلاء، ويصبر على الابتلاء.
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه. لتدعه فريدًا طريدًا من الأنس كله، مخلفًا بين الأرض والسماء. فيخجل أن يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأته، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب.
هذه صفحة. والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى. بشرى القبول. بشرى العودة إلى الصف. بشرى التوبة من الذنب. بشرى البعث والعودة إلى الحياة.. فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا. قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، سمعت صارخًا أوفىَ على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته. والله ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجًا بعد فوج يهنئونني بالتوبة، ويقولون: ليهنك توبة الله عليك.
حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله، الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره.
قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة..
هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة. وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة. وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلًا لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه، فهو في يوم كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قالها صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور. كما قال كعب، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل الله توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته.
تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب الله عليهم، وهذه هي بعض لمحات دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية، وعلى القيم التي كانت تعيش بها.
والقصة كما رواها أحد أصحابها، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه...}.
{ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} فما الأرض؟ إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها. فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق.